“تناطح كباش” العيد بالجزائر… عادة أمازيغية بين عشق الهواة وتحريم الدعاة
قبل قدوم عيد الأضحى، تتحول الساحات في بعض القرى والمدن الجزائرية إلى حلبات مبارزة لمناطحة الكباش، في منافسة تعود جذورها إلى آلاف السنين، إلا أنها رغم ذلك لازالت تثير الجدل ما بين هواة يتمسكون بها ويعتبرونها تجني لهم عائدا ماديا لا سيما في هذه الأوقات، وبين دعاة دين يحرمونها لما يرونه بأنها “تسيء للإسلام”، ما جعلها تتلاشى تدريجا في الجزائر العاصمة على عكس المناطق الغربية والشرقية.
ويمارس هواية “تناطح الكباش” آلاف الجزائريين في السر أحيانا وفي العلن أحيانا أخرى، وتنتشر في مواسم عيد الأضحى من كل عام، ويقول خبراء في التاريخ وعلم الاجتماع إنها عادة قديمة وهي جزء من الموروث الثقافي الأمازيغي.
ولهذه الهواية أماكن مخصصة تسمى حلبة (ساحة) المبارزة أو التناطح بين الكباش، وتصل مساحتها إلى 500 متر تقريبا ويتجمع المئات من المتفرجين حولها، فيما يقف في محيطها الحكم وبجانبه مالكا الكبشين، وهو الذي يقرر الفائز منهما.
وتكون أغلب الكباش المشاركة في هذه المسابقات من النوع العدواني، الذي يتراجع للخلف نحو عشرين مترا ثم ينطلق مسرعا لكي ينطح خصمه في مشهد ينتهي أحيانا بإصابة أحد الكبشين بالإغماء أو حتى الموت.
في قرية “سيدي بن ثامري” القريبة من مدينة وهران في الغرب الجزائري، يلتقي محبي هواية تناطح الكباش في ساحة المبارزة، حيث يجلب كل منهم كبشا كبيرا ذا قرون طويلة، في منافسة تتواصل بين أسبوعين و3 أسابيع قبيل عيد الأضحى من كل عام.
“مزيان شفيع″ أحد ممارسي هذه الهواية في القرية، قال للأناضول “كنا نمارسها قرب الأسواق الشعبية قبل سنوات إلا أن الأمن بدأ في منعنا من ممارستها، فقررنا نقلها إلى ساحة خارج القرية”.
ومتفاخرا بحبه لهذه الهواية، أضاف “لقد مارسها والدي وجدي قبل عقود، ونحن من أسرة ريفية تمتلك أفضل سلالات الضأن المتخصص في التناطح، وقد أحرزنا بطولات عدة في سنوات ماضية”.
ولشدة شغفهم بهذه الهواية، يطلق أصحاب الكباش في كثير من الأحيان على حيواناتهم أسماء لاعبي كرة القدم، مثل شفيع الذي أطلق على 3 من الكباش التي جلبها معه للمنافسة أسماء “زلاتان” (إبراهيموفيتش، لاعب نادي مانشيستر يونايتد الإنجليزي) واللاعب الدولي الجزائري وهداف المنتخب الجزائري الأول لكرة القدم “هلال سوداني” الذي يلعب في نادي “ديناموز زاغراب” البلغاري، ولاعب برشلونة، “لويس سواريز″.
والكبش الفائز في منافسة هذا العام بالقرية والتي اختتمت الثلاثاء الماضي، يحمل رمزيا اسم “باريقو” (لقب يشير إلى الشجاعة)، وهو اسم قديم لمدينة تقع على بعد 330 كلم غرب العاصمة الجزائرية، ويقول صاحبه “بن مرين جيلالي” للأناضول إن “بعض هواة تناطح الكباش عرضوا عليه مبلغ 500 ألف دينار جزائري (5 آلاف دولار أمريكي) لشرائه إلا أنه رفض”، لأنه يعتقد أن سعر كبشه الحقيقي يتعدى 10 آلاف دولار أمريكي.
ويعتبر من أهم أسباب التمسك بهذه الهواية هو العائد المادي منها، كما يقول “بلعباس قريصة” أحد مربي المواشي ومن هواة تربية الكباش المتخصصة في التناطح من مدينة الجلفة 300 كلم جنوب العاصمة الجزائرية.
وأوضح “قريصة” للأناضول أنه “قبل سنوات عديدة كانت هواية تناطح الكباش تتم بمقابل مالي، حيث يراهن أصحاب الكباش وهواة هذه الرياضة علنا على كل كبش، إلا أن رجال الدين والأئمة قاموا بدور كبير لتوعية الناس بحرمة ممارسة هذا النوع من القمار، وهو ما أدى إلى تراجع عمليات المراهنة إلا أنها لا تزال تتم في السر، حيث أن تناطح الكباش هو نشاط مربح للغاية بالنسبة لمالكيها لأن الكباش التي تدخل المنافسة وتنجوا من الموت يرتفع سعرها”.
ويبلغ سعر الكبش في الجزائر في أفضل الحالات حوالي 600 دولار أمريكي، إلا أنه عندما يشارك في دورة تناطح وينجوا من الموت يرتفع سعره إلى ألف دولار أمريكي، لأنه يصبح مطلوبا من قبل مربي المواشي من أجل استغلاله في توليد السلالات الجيدة من الكباش، وفق قريصة.
ولفت قريصة، الذي ينتمي إلى قبيلة أولاد نايل المشهورة بتربية المواشي (وهي من أشهر القبائل العربية في الجزائر التي يسكنها الأمازيغ أيضا) إلى أنه “في أغلب دورات تناطح الكباش التي تتم في الغرب والشرق الجزائريين، يكون الهدف الأساسي ليس المنافسة بل استعراض السلالات النادرة من الكباش، ومحاولة بيعها حيث يحصل أصحابها وهم في العادة من كبار الفلاحين ومربي المواشي على عائد مادي كبير جدا، وهذا ما يشجع على استمرار هذا النوع من المنافسات في الجزائر”.
وبينما تنتشر هواية “تناطح الكباش” في مناطق عدة بالشرق والغرب الجزائريين، فإنها اختفت تقريبا في العاصمة الجزائرية، ويقول “زاهي عمار” إمام مسجد عبد الرحمن بن عوف، في العاصمة الجزائرية للأناضول “لقد قام أئمة المساجد في العاصمة الجزائرية بدور كبير للقضاء على ظاهرة تناطح الكباش ووقفها نهائيا لأنها تسيء للإسلام والمسلمين في الجزائر”.
وأضاف عمار “الحمد لله فإن ظاهرة تناطح الكباش اختفت أو كادت تختفي من العاصمة الجزائرية”.
وفي هذا الاتجاه ذهب “بن عيسى سيد أحمد”، مربي مواشي من مدينة “خميس مليانة” غرب العاصمة، قائلا إن “ظاهرة تناطح الكباش انتشرت بشكل لافت في العاصمة الجزائرية في العقود الأربعة الماضية قبل أن تختفي منذ سنوات قليلة عقب تحريمها”.
وبيّن للأناضول أن “منافسات تناطح الكباش في الجزائر تتزامن مع عيد الأضحى لسبب بسيط، هو أن أكبر أسواق المواشي في الجزائر يتم تنظيمها في الأسابيع التي تسبق هذه المناسبة، ويتباهى بعض الأشخاص بنوعية الكباش التي اشتروها، ثم تتحول عملية التباهي إلى منافسة”.
“مجاهر إلياس″ مربي مواشي من مدينة البليدة 40 كلم جنوب العاصمة الجزائرية، قال في هذا الشأن إنه “قبل سنوات قليلة كانت منافسات تناطح الكباش تتم في أغلب الأحياء الشعبية في العاصمة وفي البليدة، إلا أن الظاهرة هذه اختفت تقريبا، وتتم الآن في السر وعلى أضيق نطاق، بسبب فتوى تحريمها التي صدرت قبل سنوات من عدة أئمة وعلماء الجزائر”.
وأضاف إلياس “في السابق كان الآلاف من هواة تناطح الكباش يشاركون في المنافسة بنفس كبش العيد الذي قرروا التضحية به، إلا أن فتوى تحريم هذه الهواية قلصت من الظاهرة بشكل لافت”.
وتأكيدا لما سبق، قال الدكتور معان عبد الصمد، أستاذ علوم الشريعة في المركز الإسلامي في باريس، وهو أستاذ محاضر في عدة جامعات جزائرية، إن “أئمة ومشايخ الدين الإسلامي يتفقون على تحريم التناطح بين الكباش لما فيه من إيذاء الحيوان وإيلامه بدون فائدة”.
وأوضح عبد الصمد للأناضول أنه “حسب المراجع الدينية، فإنه في سنن أبي داود ومسند أبي يعلى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التحريش (العراك) بين البهائم”.
وأشار إلى “فتوى صدرت في عام 1987 عن كبار مشايخ الدين في العاصمة الجزائر تحرم التناطح، وتحرم أيضا حضور حفلات تناطح الكباش”.
أما عن تاريخ ظهور هذه الهواية، قال الدكتور “آيت حمو عبد الوهاب”، المتخصص في علم الاجتماع من جامعة وهران، إن أبحاث تاريخية كشفت أن عادة “تناطح الكباش” عرف بها الأمازيع (السكان الأصليون لمنطقة المغرب العربي).
وأضاف أن القبائل الأمازيغية أو البربرية كانت قبل نحو 30 قرنا حسب مصادر تاريخية تتباهى بسلالات الكباش التي تمتلكها، في منافسات كبيرة.
وتابع في سرده لأصل الظاهرة للأناضول “ومع مجيء الإسلام إلى المنطقة (في سنة 670 ميلاديا) تراجعت هذه العادة إلا أنها لم تختفي تماما، وانتقلت من البربر أو الأمازيغ إلى العرب الذين استوطنوا منطقة المغرب العربي”.
ولفت “آيت حمو”، إلى أن “هذه الظاهرة تنتشر في دول الغرب العربي الثلاثة، المغرب وتونس والجزائر، إلا أنها موجودة أكثر في الأخيرة، ولا أعتقد أنها ستختفي لأنها جزء من التراث غير المادي للشعب الجزائري”.
أما الدكتور بن واسط جمال، أستاذ علم الاجتماع من جامعة تيارت غرب الجزائر، فاعتبر أن “ظاهرة تناطح الكباش بالرغم من أن لها أصول تاريخية إلا أنها عادة غير حميدة فهي من جهة محرمة بفتوى من عدد من كبار العلماء ومن جهة ثانية فهي تتناقض ومبادئ الرفق بالحيوان ففي حالات كثيرة تموت الكباش التي تشارك في المنافسة بسبب التناطح العنيف جدا”.
وما يثير الغرابة حسب ما قال بن واسط للأناضول إن “موت الكبش يؤدي إلى احتفال مناصري الحيوان المنتصر في المنازلة”.
وتحاول السلطات الجزائرية جاهدة منع انتشار منافسات تناطح الكباش تحت ضغط جمعيات الرفق بالحيوان الدولية التي راسلت الحكومة الجزائرية في عام 2014 ووصفت المنافسات بين الحيوانات بأنها سوء معاملة وإساءة لحيوانات أليفة.
ووضعت السلطات الجزائرية في سبيل ذلك قيود مشددة على مثل هذه المنافسات حيث يشترط موافقة المحافظ أو الحاكم الإقليمي قبل تنظيمها، وفي أغلب الحالات ترفض الطلبات، وهو ما جعل أصحابها ينظمونها في مناطق معزولة بعيدا عن أعين الأمن.
لا تعليقات في " “تناطح كباش” العيد بالجزائر… عادة أمازيغية بين عشق الهواة وتحريم الدعاة "