شريط الاخبار

قائمة

من ذاكرة الأماكن التي كلها مشتاقة إليك: بلوك كاسطور أو "الحي الأوروبي".



عبد الكريم التابي :
في زمننا الستيني الأول المترب المغبر المقفر مجاليا، والخصب العامر الغامر عاطفيا وقيميا وإنسانيا، كان ذلك التجمع العمراني ذو الهندسة الموحدة في الداخل كما في الواجهة، يبدو لنا ـ نحن سكان دواوير الهامش في افريقيا والدوار الجديد والزاوية والجلود والشعيبات ـ وكأنه حي الرياض بالرباط أو حي المهندسين أو كاردن سيتي بالقاهرة.
عندما كنا نمر من وسط البلوك أو بمحاذاته، كنا نغبط أهله الساكنين فيه على الأمن والاستقرار الذي ينعمون فيه، عكس بيوتنا الطينية التي تتساقط من سقوفها "القطرة" شتاء والعقارب صيفا، وكانت القواديس المدلاة في فناء البيوت، هي من يتكفل بتصريف مياه الأمطار التي تهطل على السطوح، فيما "المطمورات" المنفتحة على المحيط، هي بيوت النظافة أو المراحيض أو "الكابينات" بتعبيرنا القديم، و"الكوشينات" المحمومة بسواد الدخان هي و"مقاريجها" و"فراريحها" و"براريدها" ، هي المطابخ و"الكوزينات" بلغة اليوم. وإضافة إلى الأنس الأسري المشترك عندنا كما عند ساكني لبلوك، إلا أن تعايشنا داخل بيوتنا مع المعزوفات الجماعية لمواء القطط ونباح الكلاب و"قوقعة" الديكة، وأحيانا ثغاء الأغنام ونهيق الحمير، ما لا تتحمله بيوت لبلوك المحدودة الأبعاد.
في لبلوك كانت المصابيح وصنابير المياه الشروب، تغني ساكنيه عن الشمع و"لامبات" الغاز المستديرة أو شبه الأسطوانية، وعن مشقة حمل الدلاء والسطول للتزود من آبار الأشخاص الذاتيين الموضوعة رهن إشارة المنفعة العامة.
كان لبلوك مكانا لسكن فئة الموظفين المدنيين ورجال القوات المساعدة الذين يتحدرون من مناطق مختلفة من المغرب، ورجال التعليم المغاربة والعجم كما هي حال أساتذة الكوليج عند نشأته: مسيو ومدام رينو، ومسيو ومدام روجي، مسيو ومدام كازي، مسيو ومدام فورجون، مسيو بومبينا، مسيو بورليس، والأستاذان السابقان: مسيو كرونيي ومسيو لومونيي.
لبلوك الذي بني بداية الستينيات على النمط الأوروبي كسكن وظيفي لعدد من موظفي الدولة من أرضي وطابق واحد، لازال صامدا بأساساته وجدرانه وأدراجه وإسمنت أرضيته، ولازال يحتفظ في مجمله بشكله الخارجي الموحد الذي يشبه المعينات (  Les losanges) رغم بعض الزيادات التي أدخلها البعض على بعض أجزائه، ما يبين الفارق جليا بين ما يشيد بناء على أساس سليم، وما يتكلف به كثير من "كحل الراس" من المقاولين الفاسدين ، والذي ما تكاد تمضي على بنائه بضع سنوات، حتى تظهر أعراض الغش، فتنتشر الشقوق أو يتداعى البنيان جميعه إلى السقوط.
كثير من الشخصيات التي أفردنا لبعضها منشورات خاصة في سلسلة الذاكرة، وبعضها الآخر الذي سنأتي على استحضاره لاحقا، هي في غالبيتها تنتمي إلى سلك التربية والتعليم، سكنت لبلوك أو لازالت تسكنه إلى اليوم كعائلة الأستاذ المرحوم السي كابي وعائلة بلفحيل وعائلة الأستاذ السي جبران، وعائلة السي أحمد التادلاوي، وعائلة المرحوم لهرود، وعائلة المنصوري، وعائلة زازا، والمحفوظي، والمتوكل، وعائلة السي أحمد تركيا، وعائلة السي الجيلالي والسي لهاشمي لبطايني، وعائلة السي بوساكية، وعائلة السي لعبادي، و وعائلة المرحوم السي مزراك وعائلة السي الضراوي وعائلة المرحوم السي الفاطمي الحنيوي وغيرها كثير مما لا يسمح المجال بذكرها كلها.
بالقدر الذي كانت لنا في صبانا وعنفواننا الأول، ضرس ضد ( une dent contre ) (ولاد لبلوك حتى ولو لم يفعلوا لنا شيئا)، وكنا نرى فيهم خصما (طبقيا) حتى وأن غالبيتهم مجرد "محوزقين" بحالنا، أو (حتة موظفين صغار) كما يقول المصريون أو (des simples fonctionnaires du rien du tout ) كما يقول الفرنسيون، وكانت غالبية مواجهاتنا الكروية بيننا وبينهم، تنتهي بتبادل إطلاق النار (الحجارة) أو الاستيلاء على الكرة واختطافها غنيمة حرب، فإننا مع ذلك أحببنا لبلوك، لأننا كنا ندخل بيوته أحيانا فاتحين مظفرين لما كان يقع على أحد منا الاختيار من أستاذنا الذي يقطن هناك لحمل الدفاتر أو قضاء غرض ما لفائدته، كما حصل معي شخصيا في الموسم الدراسي 65/ 66 في القسم التحضيري لما أرسلني الأستاذ السي عطو ذات امتحان إلى منزله، حيث أوصلت الخبز إلى فران الزاوية، ولما عدت إلى القسم، استظهرت بإتقان محفوظة "يا إخوتي جاء المطر" أو لما كلفني السي الذهبي في القسم الابتدائي الأول بمدرسة (لبرارك) التي ستشب فيها النيران في السنة ذاتها، بإحضار دفاتر التمارين، ولما دخلت ناولني أحد بالبيت قطعة من الكوميرالأبيض اللذيذ، أو لما نسيت دوري في إحضار الدفاتر من منزل السي لعيادي، فناولني "شحطات" مؤلمة في يوم برد قارس مطير لما كنا ندخل المدرسة على الساعة السابعة والنصف صباحا.
 وأحببت لبلوك لأنه كانت للمرحومة والدتي ووالدة ابن خالي السي محمد بوخار علاقة صداقة مع زوجات الأستاذ المرحوم السي كابي ووالدة السي عبد اللطيف لشقر إذا ما صحت ذاكرتي، كما كانت لعبد الجبار علاقة صداقة مع بعض زملائه في المدرسة أذكر منهم بشكل مخصوص الصغير ابن أحد عناصر القوات المساعدة.
سيشعر فيما بعد أهل لبلوك الأولون بكثير من الفخر والاعتزاز، لما سيخرج من بين جدران بيوتهم’ شاب اسمه فؤاد عالي الهمة نجل المعلم المرحوم السي أحمد عالي الهمة، وسيلقي به حظه السعيد إلى المدرسة المولوية ليجاور على مقاعد الدراسة ولي عهد الملك الحسن الثاني، وسيدور الزمن دورته، وسيجد ما تبقى من سكان لبلوك الأولين، أن الفتى غدا الصديق المقرب للملك ومستشاره الأول الذي لازال يحافظ على بيته في لبلوك، ويزوره كلما وطئت قدماه ابن جرير، كما فعل أيام عاصفة الجرار.
لكل أصدقائنا القدامى والجدد، ولكل أساتذتنا الذين رحلوا إلى مكان آخر أو الذين رحلوا 
 إلى العالم الآخر، أو المرضى طريحي الفراش أو الأصحاء الذين لازالوا يدبون دبيبا، خالص التحيات وعميق المحبات.

شارك :

لا تعليقات في " من ذاكرة الأماكن التي كلها مشتاقة إليك: بلوك كاسطور أو "الحي الأوروبي". "

  • لمشاهدة الإبتسامات اضغط على مشاهدة الإبتسامات
  • لإضافة كود معين ضع الكود بين الوسمين [pre]code here[/pre]
  • لإضافة صورة ضع الرابط بين الوسمين [img]IMAGE-URL-HERE[/img]
  • لإضافة فيديو يوتيوب فقط قم بلصق رابط الفيديو مثل http://www.youtube.com/watch?v=0x_gnfpL3RM