شريط الاخبار

قائمة

من ذاكرة بيداغوجيا الحب والإدماج الإنساني: الأستاذ السي" أحمد كب " .


عبد الكريم التابي:
( قبل البدء: سيلاحظ المتتبع أنني أولي عناية خاصة لقطاع التربية والتعليم وفي قلبه رجاله ونساؤه، وذلك أمر طبيعي لأن الأوطان ومستقبلها رهينان بالتربية والتعليم الجيدين وبالمعلم القدير الكفء الجيد الذي يضعه المجتمع على( الراس والعين) قيد حياته ونشاطه، وعلى (الراس والعين) بعد عيائه ثم مماته وسكينته. ولعل من أعوص مشكلاتنا المجتمعية الراهنة إلى جانب مشكلتنا السياسية الجوهرية، هي مشكلة نظامنا التعليمي الذي وصل مع شديد الأسف إلى حضيض الحضيض).

تكاد تتفق تمثلات المجتمع المغربي حول يقين فئاته المختلفة متعلمة كانت أو غير ذلك، أن تربية الطفل المغربي وتعليمه، لا يمكن أن تتم إلا باللجوء إلى العقاب البدني كله أو بعضه باستعمال المصطلح الشهير"العصا"، والذي أوجدت له من المسوغات والمبررات من الموروث الثقافي العام، ما يكسبه الشرعية كأداة بيداغوجية وحيدة ناجعة لا محيد عنها، رغم النصوص القانونية التي تجرم العقاب البدني وتتابع مرتكبه أمام القضاء، ورغم ترسانة الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الطفل.
و تطفو هنا وهناك بعض الآراء على قلتها وسط رجال التربية والتعليم، الذين لهم وجهة نظر مخالفة مؤسسة نظريا على بعض التجارب المقارنة في بعض الأنظمة التربوية العالمية التي ترى أن العقاب البدني، آلية تعطل سيرورة التعلم الإرادي وتعزز سلطة الغصب والإجبار وإن لم تقتل القدرات والملكات لدى التلميذ الغض، فإنها تخمدها.
 و في حالات أخرى يرتبط الجنوح إلى معالجة الأمور بطريقة تتجنب القوة والشدة وتنتصر إلى الوداعة واللين، بطبيعة التكوين السيكولوجي الفطري لبعض الأساتذة دون أن يعني أن سلوكهم الهادئ وأعصابهم المرتخية تحت درجة الصفر، هو ترجمة لنظرية ما في البيداغوجيا وفن التدريس،  ويمارسون في سلوكهم اليومي إزاء تلامذهم ما يمكن أن نسميه بيداغوجيا الحب والأعصاب المرتخية، والتي كان المرحوم الأستاذ السي أحمد كاب رائدها بامتياز.
وأقر كما قد يقر معي كل من جايل أو عرف السي كاب، أنه كان يمثل حالة تربوية فريدة في علاقته مع تلاميذه الذين تتلمذوا على يديه، أو كانوا تلاميذ في المدارس التي عمل بها من كونه الأستاذ الهادئ المرح المحبوب المتسامح اللطيف، الذي عادة ما يحف به الصغار من كل جانب ويتمسكون به حتى خارج المدرسة، وهو يوزع عليهم بشاشته ومرحه بالجملة والتقسيط.
وشهرته في تعامله السلس المرن إضافة إلى طربوشه الأحمر الذي لا يفارق رأسه، كانتا علامتين مميزتين، لم تقتصر على الفاعلين داخل المؤسسات التي ترك فيها بصمته الخاصة، بل تعدتهم إلى كل مجتمع ابن جرير نساء ورجالا لما كان السي أحمد قيد حياته يزاول مهامه التربوية التعليمية في كامل الهمة والنشاط والحيوية والحبور.
السي أحمد كاب من مواليد سنة 1930 بطاطا. تلقى تعليمه إلى غاية السنة السادسة (الأولى باكالوريا) بثانوية ابن يوسف للتعليم الأصيل، وزاد في تكوينه المعرفي على يد بعض الشيوخ بمدينة فاس.
سيلتحق السي أحمد بقطاع التربية والتعليم (سلك التعليم الابتدائي) منذ فجر الاستقلال وبالضبط منذ سنة 1958، وستكون بدايته في مدرسة سيدي يوسف بن علي بمراكش. ومنها انتقل إلى أمزميز ثم ثلاثاء أنغراس بنواحي مراكش.
في سنة 1963، سيلتحق بابن جرير ليعمل بمدرسة الحبس (الخيرية حاليا). استقر رأيه على تغيير الأجواء، فانتقل إلى العطاوية بدوار (ولاد وكاد) حيث قضى هناك أربع سنوات، عاد بعدها إلى ابن جرير، ليشتغل بمدرسة المحطة التي تحولت فيما بعد إلى ملحقة إعدادية ابن جرير، ومنها تم تنقيله إلى مدرسة افريقيا للبنات التي تسمى حاليا بمدرسة (ادريس المحمدي)، والتي أكمل بها بقية المشوار إلى أن أحيل على التقاعد سنة 1990 . وبتاريخ 25 يونيو 2005، توفي السي كاب وغاب جسده، لكن طيفه لازال يلوح لكل من أحبه من تلامذته وزملائه وأصدقائه وجيرانه في حي بلوك كاسطور مجمع كثير من رجال التربية والتعليم الموتى والأحياء.
ترك السي أحمد إلى جانب سمعته كمرب بخصائص فريدة في زمنه وفي زمننا الذي يمضي، ذرية من الأبناء والأحفاد الناجحين كالأستاذة الفاضلة (مليكة كاب) ونجليها المهندسين وشقيقيها رشيد وخالد الذي يعمل هو الآخر بسلك التعليم. كما ترك إرثا ثقافيا يتمثل في خزانة ضخمة تحتوي على ما يناهز أربعمائة كتاب في الفقه والأدب منها (البيان والتبيين للجاحظ) وغيره من الكتب والمؤلفات التي وقفت عليها وحيالها منذ أربعين عاما لما رافقت المرحومة والدتي التي كانت تربطها علاقة خاصة بأهل بيت السي كاب، واستمر ذكرها وآثرها الطيبان إلى ما بعد وفاتها، حيث لا يتوانى كل أفراد أسرة السي أحمد في استحضار روح والدتي والسؤال عمن تبقى من أفراد عائلتي بعد رحيل الكبار.
مما لاشك فيه أن المرحوم السي أحمد كاب، واحد من بناة المدرسة المغربية في سنوات "الاستقلال" الأولى، الذين ناضلوا في ظروف صعبة من أجل بناء جيل ما بعد "الاستقلال". ومما لا شك فيه أن ذلك الجيل الأول من رسل العلم والتربية، انتهى ما بعد التقاعد في أوضاع مادية وصحية حرجة، لا تعدل ما قدموه من خدمات للمغرب الصاعد. إلا أن ما يدخل الطمأنينة والارتياح في نفوسهم وهم تحت التراب أو لازالوا يدبون فوقه وفي نفوس أولادهم وأحفادهم، أن الناس تلامذة وآباء وأمهات وأولياء، شملوهم الأمس ويشملونهم اليوم وغدا بفيض من الحب والتقدير اللذين لا يفنيان.
لروح المعلم العطوف السي أحمد كابي، السكينة والسلام الأبديان.

شارك :

لا تعليقات في " من ذاكرة بيداغوجيا الحب والإدماج الإنساني: الأستاذ السي" أحمد كب " . "

  • لمشاهدة الإبتسامات اضغط على مشاهدة الإبتسامات
  • لإضافة كود معين ضع الكود بين الوسمين [pre]code here[/pre]
  • لإضافة صورة ضع الرابط بين الوسمين [img]IMAGE-URL-HERE[/img]
  • لإضافة فيديو يوتيوب فقط قم بلصق رابط الفيديو مثل http://www.youtube.com/watch?v=0x_gnfpL3RM