شريط الاخبار

قائمة

الجوائح وتاريخ الأمم : (المغرب والأندلس وإسبانيا المسيحية)



   قبل سقوط الأندلس بسنوات قليلة، عرفت إسبانيا المسيحية انتشار الطاعون، وقد أجبر ذلك جيوش قشتالة على التوقف في حربهم ضد المسلمين. وقبل ذلك بمائة سنة، عرفت قرطبة المسيحية أسوأ جائحة في تاريخها، حيث تفشى الطاعون، وفر الناس خارج المدينة هرباً من الوباء، قبل أن تتدخل الدولة لتفرض الحجر وتمنعهم من مغادرتها، تفادياً لتفشي العدوى في كل البلاد.
      لم تقتصر الجوائح على إسبانيا المسيحية، بل كان للمغرب والأندلس نصيب منها. ويخبرنا ابن عذاري أن الطاعون ضرب في سنة  1176م، مختلف أنحاء الإمبراطورية الموحدية في الأندلس والمغرب، وبسببه اضطر الخليفة يوسف بن عبدالمومن لمغادرة الأندلس على وجه السرعة عائداً إلى عاصمة ملكه مراكش. غير أن الدولة تمكنت بعد ذلك من تجاوز الجائحة، بل وعاشت أزهى مراحلها الحضارية والسياسية والاقتصادية خلال السنوات الموالية، مع الخليفة يعقوب المنصور، الذي اعتنى بالطب وقرب منه كبار الأطباء من أمثال ابن طفيل وابن رشد. وقد سار الخليفة المغربي في ذلك، على خطى خليفة أندلسي عاش قبله بمائتي سنة، هو الحكم الثاني الذي كان يرسل مبعوثيه شرقاً وغرباً لاقتناء كتب الطب، وهو ما سمح له بتكوين أهم خزانة لكتب الطب وغيره من العلوم على امتداد القرون الوسطى (كانت تضم أربعين ألف مخطوط). وفي كنف هذا الخليفة عاش الزهراوي الذي يعتبر أول طبيب جراح في أوروبا.
    كانت الدولة تُقَدِم كل الدعم  للأطباء والصيادلة الذين قاموا وقت الجوائح بمجهودات مضاعفة من أجل الحيلولة دون تفشيها. وكان هؤلاء الأطباء يستنكرون كل عمل مسيء لمهنة الطب، وألف بعضهم كتباً حول أخلاق الأطباء، مثل إسحاق بن علي الرهاوي، صاحب كتاب "أدب الطبيب"،  وسعيد بن الحسن صاحب كتاب "التشويق الطبي" والذي  حذر من مغبة تسلُطِ المتطفلين على القطاع، وطالب أن يتم اعتماد التجريب كأساس للطب، وانتقد بشدة قيام بعض الأطباء بامتحانات تجريبية للطلبة، على غير المرضى المصابين بالداء الذي يُمتحن فيه الطالب. 
   ويقدم لنا "ضياء الدين ابن الأخوة"، معلومات مفيدة عن تنظيم قطاع الطب والصيدلة؛ فقد كانت المتابعة القانونية تطال كل طبيب قدّم وصفات خاطئة سبَّبت في وفاة المريض. وفي المقابل فإن نفس المتابعة قد تطال المريض إذا استفاد من العلاج ورفض دفع المستحقات. وكان من حق الطبيب أن يطلب ما يريده، ثمناً لأدويته إذا ثبتت فعاليتها. ويحدثنا ابن جلجل في "طبقات الأطباء"، عن طبيب اسمه الحراني، كان الوحيد الذي يمتلك تركيبة  الجرعات التي تعالج أمراض الجوف، وكان يبيع الجرعة الواحدة بخمسين ديناراً. وقد حاول غيره من أطباء الأندلس الوصول إلى التركيبة السرية ففشلوا في ذلك، مما أجبرهم على تسديد  "براءة الاختراع" التي طالبهم بها، مقابل الكشف عن مكونات الدواء. 
   وقد ازدهرت صناعة الأدوية التي بدأ تسويقها في محلات متخصصة، وكان الحصول على ترخيص من أجل فتح صيدلية يخضع لشروط صارمة، من بينها عدم فتحها بجوار مخبزة، وذلك حتى لا تتضرر الأدوية بالحرارة. وكانت هناك مراقبة صارمة للأدوية من طرف الدولة، بحيث يتم ذلك بشكل مفاجئ ليلاً أو نهاراً من خلال زيارات مباغتة للصيدليات، كما نقرأ في  كتاب "معالم القربة في أحكام الحسبة".
  بالعلم والانضباط والقانون والتضامن والمواطنة، انتصرت الأمم على الجوائح التي ألَّمت بها منذ فجر التاريخ، وبنفس هذه الأسلحة يمكن أن تنتصر الأُمم اليوم على جائحة كرونا، ولنا في أمة الصين العظيمة عبرة.
      تلك هي أزلية الأمم المنتصرة، وذلك هو درس التاريخ الخالد.

شارك :

لا تعليقات في " الجوائح وتاريخ الأمم : (المغرب والأندلس وإسبانيا المسيحية) "

  • لمشاهدة الإبتسامات اضغط على مشاهدة الإبتسامات
  • لإضافة كود معين ضع الكود بين الوسمين [pre]code here[/pre]
  • لإضافة صورة ضع الرابط بين الوسمين [img]IMAGE-URL-HERE[/img]
  • لإضافة فيديو يوتيوب فقط قم بلصق رابط الفيديو مثل http://www.youtube.com/watch?v=0x_gnfpL3RM